جسد شعره حياته وجسدت حياته تاريخ شعب
حوار غير منشور مع سالم الجمري
خليل عيلبوني
لم يكن برنامج “الذهب الأسود” وحده الذي قربني من الدكتور مانع العتيبة، بل كان حب ذلك الرجل للشعر والشعراء أحد أهم أسباب التلاقي. كان مجلسه دائما حافلا بشعراء الإمارات، وكان يطربني الإصغاء إليهم وهم يتشاكون ويتبادلون القصائد التي كان معظمها في الحب وعذاب الحب وحكاياته التي لا تنتهي. ومن هؤلاء الشعراء الذين أسعدني الحظ بالالتقاء بهم والارتباط بعلاقات الود والصداقة معهم، الشاعر سالم الجمري، والذي كان لا ينقطع عن زيارة الدكتور مانع العتيبة في غنتوت وأبوظبي، ولقد شعرت منذ البداية باختلاف هذا الشاعر عن غيره، فهو عزيز النفس عالي الهمة قليل المجاملة يرى نفسه رغم تواضعه جبلا عاليا وقمة يصعب الوصول إليها.
لقد حدثني كثيرا عن حياته في الإمارات منذ كان طفلا ومنه علمت أن تاريخ ولادته يرجع إلى الأعوام الأولى من القرن العشرين أي ما بين 1905 و1910 في مدينة دبي وأذكر أنني سألته عن تعليمه، لأنني وجدته على قدر كبير من الثقافة والمعرفة فقال: “تعلمت القراءة والكتابة وقواعد اللغة العربية والقرآن وأصول الفقه على يد أستاذ هو المرحوم محمد الشنقيطي في دبي التي كان فيها بعض الكتاتيب والتي كان لها فضل على العديدين من أبناء المنطقة قبل إنشاء المدارس وانتشار التعليم. وكان بي ميل كبير للغة العربية وللشعر العربي الفصيح، وأستطيع أن أؤكد أنه على الرغم من أنني لم أنظم إلا الشعر النبطي إلا أن اهتمامي بالشعر الفصيح كان كبيرا، وكنت أتمنى أن أنظم الشعر بالفصحى ولكن نظرا لشعوري بالرهبة ولعدم تمكني من قواعد اللغة العربية بشكل كاف فإنني لم أحاول نظم الشعر الفصيح مع إعجابي به وطربي لسماعه وخاصة للفطاحل أمثال امرئ القيس والمتنبي وغيرهما”.
وفي ذات يوم حضرت حوارا بينه وبين الدكتور مانع العتيبة، أقتطف منه بعض الأجزاء المتعلقة بهذا الموضوع.
قال الجمري: أتعرف يا دكتور مانع كم أنا معجب بشعرك الفصيح؟
فرد مانع: هل اطلعت عليه؟
◆ اطلعت على جميع دواوينك الفصيحة، وأعجبتني كثيرا.
ـ الشعر هو الشعر، سواء كان فصيحا أو نبطيا.
◆ صحيح ولكن كنت أتمنى أن أنظم الشعر الفصيح لأشاكيك بقصيدة عصماء.
ـ الأمر بسيط.. شاكيني بقصيدة نبطية وأنا أرد عليك.
◆ ولكنني أريدك أن تعرف أنني أحب الشعر الفصيح وأتمنى أن أنظمه.
ـ ألم تحاول؟
◆ حاولت عدة مرات، ولكنني تراجعت لأنني لا أملك زمام القواعد والنحو والصرف
ـ ولكنك شاعر نبطي لا يجارى.
◆ لو كان بالإمكان أن يعود بي العمر إلى الصبا، لدخلت المدرسة من جديد وتعلمت قواعد اللغة العربية ونظمت الشعر الفصيح.
كان المرحوم سالم الجمري مغرما بالإصغاء إلى الشعر الفصيح، والاطلاع على دواوين الشعراء الكبار مثل عنترة وامرئ القيس والمتنبي وأبي فراس، ولم يكن يخفي عني ذلك الإعجاب الكبير بالشعر الفصيح بل إنه أسر لي أنه ما زال يحتفظ بمحاولات نظم الشعر الفصيح ولكنه لم ينشرها أو يسمح لأحد بالاطلاع عليها.
كانت شخصية سالم الجمري مختلفة عن جميع شعراء النبط الذين التقيت بهم في مجلس الدكتور مانع العتيبة، فهو هادئ إلى الحد الذي تظنه فيه أنه غائب عن المجلس لا يتكلم إلا إذا سئل، أو طلب منه إبداء رأيه، وعندما يتكلم يلاحظ المستمع بسرعة أن الرجل مثقف وأن لديه دراية بالتاريخ وأنه مطلع على أمور الدين وعنده وجهة نظر في الموضوعات السياسية والاقتصادية.
عمل الرجل في صباه وبداية شبابه كما عمل الشباب من جيله في الغوص، بدءا من الأعمال البسيطة فوق المركب وانتهاء بعمليات الغوص نفسها وجمع المحار من أعماق الخليج.
لقد أتيحت الفرصة للجمري مرافقة أبيه وأخيه أحمد في رحلات الغوص منذ كان في العاشرة من عمره، وفي الخامسة عشرة من عمره تمكن من الغوص وبرع في ذلك العمل الخطير ونجح فيه.
ولكن موسم الغوص عادة لا يستغرق إلا وقتا محدودا من السنة (أربعة أشهر) وكان الفراغ الذي يتلو موسم الغوص يفرض عليه الاستزادة من العلم والمعرفة ومجالسة كبار الشعراء الذين تزخر بهم المنطقة وخاصة الماجدي بن ظاهر.
سألت المرحوم الشاعر سالم الجمري ذات يوم: ماذا حققت في علاقتك مع البحر وفي عملك في الغوص؟
قال: حققت الكثير.
قلت: المال؟
قال: بل ما هو أهم من المال.
قال: إذن لم يجعلك ذلك العمل صاحب ثروة.
قال: بمقياس الزمن الماضي حقق لي ثروة بسيطة تمثلت باستطاعتي تملك سفينة غوص (محمل) كنت أنا نوخذتها.
قلت: إذن ما الذي كان أهم من المال والثروة وتحقق لك من الغوص؟
قال: التجربة، عناق البحر، الغوص إلى الأعماق، جمع المحار من القاع، مواجهة أسماك القرش (الجراجير) التحدي، بناء النفس، الشجاعة، الصبر على الجوع والظمأ، الشوق إلى الحبيب في البر بعد غياب أكثر من أربعة أشهر في البحر، كل هذا زودني بروافد للشعر وفتح لي أبوابه على مصاريعها فدخلت وغرفت من معين لا ينضب وقطفت من ورود لا تذبل.
ولقد توضح أثر تجربة الغوص على شعر سالم الجمري حيث وردت صور هذه التجربة في كثير من قصائده التي كان قد سلمها لي ليقوم أخي ميلاد بخطها وإعدادها للطباعة حيث لم يكن قد نشر في ذلك الزمن المبكر إلا ديوانا واحدا هو “لآلئ الخليج”، على سبيل المثال لا الحصر أقتطف هذا المقطع من إحدى قصائده الأخيرة:
وكم غصت بحر لجته دبة انجوم
أجني من اللولو رفيع المساما
ولا همني بحر وبرد ولا اغيوم
لو كان غمج مثل غبـة سلاما
واليوم غالتني الحوادث ولا روم
انهض يلي مني بغيت القياما
بعد اكتشاف اللؤلؤ الصناعي في اليابان وهبوط أسعار اللؤلؤ الطبيعي فقد أبناء المنطقة مصدر الرزق الوحيد الذي كان لديهم.
ولأن الجمري لا يسلم للظروف ولا يستسلم للواقع فقد قرر هجرة الوطن والسفر إلى دولة خليجية اكتشف فيها النفط وتدفقت عليها الثروة، وذلك عملا بقول الشاعر:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفـرج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد
سألت المرحوم سالم الجمري: ما هي أول بلد هاجرت إليه؟
قال: الكويت.. إما عام 1950 أو عام 1949.
قلت: ذكرتني بوالدي، فقد ذهب أيضا للعمل في الكويت بعد نكبة فلسطين في مايو 1948 ولكنه لم يستطع أن يبقى هناك إلا ثلاثة أشهر.
قال: أنا بقيت سنتين.
قلت: وأين عملت وماذا عملت؟
قال: عملت في البترول، في منطقة الأحمدي.
قلت: وهل كنت سعيدا؟
قال: الكويت ما قصرت معنا، كانت حنونة علينا، ولكن الغربة مرة، خاصة وأنني اضطررت للعمل اليدوي البسيط بعد أن كنت في بلدي صاحب محمل ونوخذة.
قلت: هل انعكس ذلك على شعرك.
قال: مؤكد، ولقد قلت في إحدى قصائدي في ذلك الزمن:
لو لي بخت ما سرت لكويت
ولا بعد غادرت الأوطان
اسميك يا حظي ترديت
ابعدتني عن ساحل عمان
ابلا وليف القلب تميت
مستوحش روحي وحيران
إذا ذكرت الولف ونيت
خرت دموعي فوق الأوجان
من بعد كيف وانس ومبيت
ومنادمة مدعوج الأعيان
اليوم حالي في تشتيت
في الأحمدي وواره وبرقان
قلت: من يسمعـك يظن أنك تذم
قال: هذا خطأ، أنا أحب الكويت ولا أنكر فضلها، ولكنها كانت أول تجربة اغتراب لي، وكان الحنين إلى الوطن هو سبب هذه القصيدة.
قلت: وبعد الكويت
قال: ذهبت إلى السعودية
قلت: غربة أخرى
قال: ولكن هذه المرة بروح رجل الأعمال لا روح العامل
قلت: كيف؟
قال: وصلت إلى الدمام في حوالي عام 1952، لأعمل في كتابة عروض وشكاوى وطلبات الناس، فأنا أجيد الكتابة ولدي أساس في اللغة العربية، واستطعت بالفعل أن أنجح في هذه المهنة بل وأضفت إليها التصوير الذي تعلمته وأصبحت خبيرا في التصوير والتحميض وتمكنت من تحسين ظروفي المعيشية وجمعت مبلغا لا بأس به.
قلت: ومتى عدت من السعودية ولماذا؟
قال: عدت حوالي عام 1956، والسبب كان الشوق إلى الأهل والوطن، ولم يكن النفط قد اكتشف في الإمارات بعد ولكن كان هناك نشاط لشركات البترول في البر وفي البحر.
قلت: وماذا عملت في الوطن؟
قال: لم أتخل عن مهنة التصوير في البداية، ولكنني عندما وجدت أنها مهنة محدودة الدخل اتجهت إلى التجارة.
قلت: والشعر؟
قال: كان الشعر بالنسبة لي هواية، ولم يكن في يوم من الأيام مصدر دخل أو وسيلة لكسب العيش.
تعددت لقاءاتي بالشاعر سالم الجمري، وتوطدت أواصر الصداقة بيني وبينه وكنت ألح عليه دائما أن يقوم بطباعة ديوانه الثاني بل وتسلمت منه قصائد كثيرة بعضها مطبوع على الآلة الكاتبة وبعضها الآخر بخط يده ودفعتها إلى أخي ميلاد الذي قام بخطها وتسليمها له مخطوطة دون أن يقوم بعمل نسخة منها، وهذا ما جعلني آسفا ونادما لأنه لو فعل لكان بالإمكان إنقاذ تراث ذلك الشاعر ولا أدري حتى اللحظة ماذا حدث لذلك الديوان ولماذا لم يجده أحد في تركته التي خلفها خلفه، بعد أن انتقل إلى رحمة الله في الثامن والعشرين من فبراير 1991.
وسيظل صوته الهادئ، وكلماته الصادقة تتردد في ذاكرتي كلما اقتربت من غنتوت التي جمعتني به عشرات المرات حيث كنا نجلس في مكتبة قصر الدكتور مانع العتيبة، نطل منها على البحر الجميل ونتبادل الحديث حول الشعر بجناحيه، الفصيح والنبطي.
كان الجمري علما من أعلام الإمارات، ولن تنسى الإمارات أبناءها المبدعين، رحم الله الشاعر سالم الجمري وأسكنه فسيح جناته.[center]